نتج عن نشر وزارة العدل لمسودة القانون الجنائي
قراءات أولية لنقط مختلفة، منها ما اعتبره الفاعلون في الفضاء الحقوقي والقانوني تراجعا
عن الالتزامات الدولية التي تبناها المغرب ومنها
تلك التي اعتبرت مقتضيات المسودة متقدمة وتساير التطور التشريعي الذي يتوخاه
المغرب؛
وإذا كان يصعب الحسم بناء على قراءات أولية
في مدى ضرورة إعادة هيكلة المسودة بشكل كامل أو هي في حاجة إلى تصويب جزئي، فإنه نجد
من المقتضيات التي بمجرد ربطها في إطار قراءة تنسق بين عدد من المواد نجد تلك التي
تنبئ بالتأسيس لقانون جنائي يحمل بين طياته من بذور التوسيع من الفجوة الرقمية التي
نعاني منها أصلا؛ الفجوة الرقمية التي يقصد بها تلك الفجوة التي تفصل بين من يملك المعرفة
وأدوات استغلالها، وبين من لا يملكها وتعوزه أدواتها، ـ المعرفة المقصودة هنا هي المعرفة
المعلوماتية والتكنولوجية، حسب التحديد التعريفي الذي تم تداوله في القمة العالمية
لمجتمع المعلومات التي عقدت بجنيف في دسمبر2003 ـ
ففي إطار قراءة أولية ودون الإنفتاح على باقي
مشاريع القوانين الملامسة للموضوع من قبيل القانون الخاص بالحق في الحصول على المعلومات
ومشروع القانون المتعلق بالصحافة والنشر، فإذا ما ربطنا ما بين بعض المقتضيات التي
تنص على أنه من العقوبات الإضافية والتدابير الوقائية حجب المواقع الإلكترونية ببعض
الجرائم التي ظلت في إطار الكلمات الفضفاضة سنقف على مدى عدم إستيعاب المسودة لواقع
المجتمع المغربي بخصوص تعامله بالوسائط الرقمية،
فقط آخذ على سبيل المثال المادة 448ـ2 التي
تنص على أن " يعاقب بـ ... كل من قام بأي وسيلة بما في ذلك الأنظمة المعلوماتية
ببث أو توزيع تركيبة مكونة من أقوال شخص أو صورته، دون موافقته أو دون الإشارة إلى
كون هذه التركيبة غير حقيقية "، وهنا يمكن إفتراض استيعاب هذا النص لنشر أقوال
أو صور لشخصيات عامة بشكل تركيبي دون موافقتهم رغم عدم تواجدهم بمكان خاص يحفظ لهم
خصوصياتهم، لأن النص الذي يسبق هذه المادة هو من يؤطر واقعة نشر تسجيل أو صورة لشخص
كان في مكان خاص وكان النشر دون موافقته،
إذا فالمادة 488ـ1 هي التي تتعلق بوجود الشخص
المنشورة صوره او تسجيلات تتعلق بأفعاله وأقواله في مكان خاص، أما المادة التي تليها
فهي تتعلق بصور وتسجيلات يمكن أن تؤخذ في الأماكن العمومية، وهذا أفهم منه أن أي تغطية
يجب أن يقوم بها أي صحفي لندوة ما أو أحداث ما يكون من المفروض عليه الحصول على موافقة
كل الأشخاص الذين التقطتهم عدسة آلة التصوير الخاصة به قبل نشر صورهم بشكل تركيبي رفقة
التقرير أو التغطية المراد نشرها في الموقع الإخباري، أو الإشارة دائما إلى أن الامر
يتعلق بصور تركيبية،
وما دامت المواقع الإلكترونية هي التي تتوفر
على مساحات أكبر لنشر صور أكثر من التي تكون منشورة على الدعامات الورقية، فإن المالكين
والعاملين بالمواقع الإلكترونية، ووفقا لطريقة
العمل التي تتم حاليا على المستوى الواقعي هم مشاريع مجرمين تنتظرهم عقوبة تتراوح بين
6 أشهر و 3 سنوات وغرامة مالية من 2000 درهم إلى 20000 درهم، في حالة عدم إلتزامهم
بهذه المقتضيات بالرغم منأن العديد من الصور التركيبية تكون واضحة وتكون بهدف إضفاء
جمالية وتقديم أكبر ما يمكن تقديمه من الصور المعبرة عن الحدث، وكل المواقع الإلكترونية باستثناء الرسمية طبعا
مهددة بعقوبة الإعدام التي تسمى بالحجب وفق اللغة التقنية وتعبير مسودة القانون الجنائي،
وذلك بإستحضار المادة 90 من المسودة التي نصت على حجب المواقع الإلكترونية التي يمكن
أن تستعمل في جريمة ما، هل عقوبة الحجب في هذه الحالة إذا ما تم إتخاذها ستكون في مستوى
الفعل الذي صنف في خانة الجرائم المعاقب عليها، هذا في حالة ما إذا لم يتم التوسع في
النص إن تم تشريعه من طرف القائمين على تطبيق القانون،
وقد
تم التنصيص على إمكانية الحكم بعقوبة الحجب دون تحديد حالاته على سبيل الحصر، أ فليس هذا الحجب الإعدام عقوبة عبثية مادام أن
الوضع لن يتغير بحجب المواقع في ظل عولمة ألغت الحدود بين الدول وألغت أي آثار لمثل
هذا الإجراء الذي يتم داخل التراب الوطني لكن الشبكة العنكبوتية يمكن أن تأخذنا إلى
مواقع تتجاوز حدود الوطن للإطلاع على ما كان سببا في إعدام موقع ما،
ألم يكن في الحد الأدنى تحديد حالات الحجب
على سبيل الحصر؟ إذا كان للحجب بد، ولماذا
لم يستعمل منطق المساواة بين جميع المواقع المفتوحة في وجه المغاربة في هاته الحالة؟
فإذا كان من اللازم حجب موقع حقق مناط العقوبة، لماذا لم يتم تخصيص أي عقوبة بخصوص
نشر معلومات خاطئة، أو خرق حق الحصول على المعلومة في مواجهة القائمين على المواقع
التابعة للمؤسسات الرسمية؟ خاصة وأن هذه المواقع يحافظ على استمراريتها وتجددها ـ إن
تحقق هذا التجدد ـ باستعمال المال العام.
أعتقد أن الرأي الصائب هو الذي قال أن البث
و النشر عبر المواقع الإلكترونية لا مكان له ضمن مقتضيات القانون الجنائي، لأنه من
خلال واقع تطبيق هذا الحجب ـ الإعدام ـ، يمكن أن يتكرس لدى المهتمين و المتتبعين إعتقاد
بأن القضية ليس فيها ما يجب فهمه وتقبله، فهي فقط تتعلق بآلية في يد السلطات لردع المواقع
التي تنشر معلومات حول بعض القضايا المعينة، وهو إعتقاد غير دقيق ولا يمكن الحسم فيه.
استحضرت سابقا عمل المواقع الإلكترونية لكن
في الحقيقة الأمر لا يقتصر عليها فقط، بل يشمل حتى المواطنين الذين يتعاملون بشكل يومي
بجميع وسائل الاتصال و تبادل الصور و التسجيلات، ربما فهمي هو القاصر عن إستيعاب ما
تروم إليه مثل هذه النصوص القانونية، لكنني صراحة أعتقد أن الأمر يتعلق بعدم إستيعاب
عميق لما هو عليه حال ما سمته المسودة بالأنظمة المعلوماتية.
هناك عديد من النصوص التي تفرض مثل هذا الفهم
ولأن الأمر عمليا في حاجة إلى دراسة علمية معتمدة على المنهج المقارن، فإنه أعتقد فقط
ضرورة التنبيه إلى أنه من المفروض استحضار
واقع تجتاحنا فيه الوسائط الرقمية و التبادل الإلكتروني للصور و الآراء و التسجيلات
و .. العادية منها والتركيبية، فالأمر فعلا يستحق أن يكون مثار نقاش وموضوعا حاضرا
لدى المعنيين كي تتبدى الأمور وتتضح، فقبل تشريع نصوص وفق قاعدة تعويم المصطلحات التفتوا
يمينا ويسارا وستلاحظون أي نوع من الأجيال تشرعون له هذه النصوص، إلتفتوا إلى أبنائكم
أحفادكم، لاحظوا ما أصبح عليه "الفايسبوك" و "الواتساب" و
"التويتر" و "الأنستغرام"،
أنظروا جيدا إلى واقع التسلية والترفيه وأنماط تبادل المعلومة والخبر في مجتمعنا، فالكل
سيصبح وفقا لما سبق متهمين حتى تثبت برائتهم.
بالفعل لا يمكن لأي كان القول بترك الأمور دون وضع ضوابط لها، لكن أثناء
وضع هذه الضوابط إستوعبوا أن زمن التعويم لا مجال له الآن لأنه يأخذ في طياته بذور
الإنهيار السريع، تعاملوا بنوع من الليونة مع الثورة التقنية كي لا تؤسسوا لثورات قد
تتبدى مع تصاعد الإحساس بأن القطاع السياسي أصبح مؤسسة قديمة لم تعد تفي على نحو ملائم
بحل الأوضاع و الإشكالات التي تفرضها الأنماط المعاملتية التي أصبحت تستجد في فترات
زمنية قصيرة جدا.
من اللازم إحداث موازنة بين التطور التشريعي
و التطور العلمي لتحاشي الهوة التي يمكن أن تحصل بين القانون والواقع، فتصبح لنا نصوصا
تفعل من منطلق اللجم والضغط، لا على أساس تطبيق القانون في جميع الحالات،
من المستحسن عدم إنتاج نصوص محدودة لا قدرة
لها على مواجهة وقائع ممدودة، و من المستحسن أيضا إذا كان الوضع على ما هو عليه تأجيل
الأمر إلى حين ظهور من يحمل عقلا وفكرا له من الإستطاعة ما يجعله يصنع نصوصا لا تسعى
إلى إخفاء وتكذيب الواقع، فكل شيء يمكن الجدل فيه إلا مسألة الحفاظ على مساحة الحرية
المكتسبة،لأننا متشبعين بفكر ثقافة الحق في الحياة لا بفكر الإعدام ،فهل سيغزو الإعدام
أرواح البشر لينتقل لألواح المعلوميات وأجزائها الدقيقة؟ ببساطة إقتنعوا أن في حياتنا
مساحة من تواصل كامل عن بعد.
دكتور في الحقوق
عضو جمعية عدالة
مدير موقع العلوم لقانونية
0 التعليقات: